خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربيّة | فصل

صدر كتاب «خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربيّة» (2021)

 

صدر كتاب «خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربيّة، مقاربات في النقد الثقافيّ؛ ما بعد الكولونياليّة؛ النقد النسويّ؛ التاريخانيّة الجديدة»  (2021)، عن «المؤسّسة العربيّة للدراسات» للكاتب والباحث في الدراسات الثقافيّة رامي أبو شهاب. 

يقدّم الكتاب محاولة لقراءة الرواية العربيّة لا من منظور تاريخيّ فحسب، بل في سياق تكوين الرواية القَلِق من حيث رؤاها وتقاطعها مع السياقات الثقافيّة المتحوّلة، فضلًا عن تعالقها مع النقد بوصفه محاولة للإدراك. لكنّ ذلك يأتي مسبوقًا بمحاولة البحث في رؤية العالم انطلاقًا من تمهيد يضطرّ للاستعانة بالخبرات الفلسفيّة الّتي تتّصل ببناء أو تشييد الصيغ الخاصّة بهذه الرؤية، وتقاطعه مع الحدث، في حين أنّ مركزه الوعيّ، والأخير لا يعني بأيّ حال من الأحوال الإشكاليّات الّتي تتّصل بعلاقتها مع الماضي والتاريخ والهيمنة والسلطة والآخر.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتب.

 


 

الوعي رؤية العالم

في عام 1890، قدّم الفيلسوف الألمانيّ فيلهلم دلتاي في «جامعة برلين» محاضرة بعنوان «نظام الأخلاق»، تناول من خلالها بعض المبادئ الأساسيّة الّتي تحكم وجود البشر، ليخلص إلى مقولة ’رؤية العالم‘ Worldview، الّتي ترى أنّ وجود البشر - أفرادًا وجماعات -  لا يتحقّق من خلال معاينة العالم عبر منظور معرفيّ فحسب، إنّما ينبغي أن تخضع هذه الرؤية لمبدأ قيميّ، وبناء على ذلك؛ فإنّ العلوم الطبيعيّة ستكون عاجزة عن تقديم تصوّر شموليّ للعالم، من منطلق أنّ رؤية العالم تنهض على فعل التفكير العميق، الّذي ينظر إلى ذاته لا بوصفه وجودًا فحسب، إنّما ما يعطي هذا الوجود  قيمة، وما يجب أن نناضل من أجله، أو ما يستحقّ هذا الوجود[1].

تذهب نظريّة فيلهلم دلتاي إلى تأمّل الحياة بوقائعها بعيدًا عن تلك الرؤية المثاليّة، الّتي ميّزت الفلسفة الهيجليّة؛ إذ إنّ تجلّي العالم التاريخيّ يأتي من المعاينة المباشرة، بحيث يدرك الإنسان وقائعه، وبذلك فإنّ ثمّة تحدّيًا واضحًا للمبادئ فوق الطبيعيّة ’الميتافيزيقيا‘، كما ثمّة تجلّيات لهذا الوجود أو كما يسمّيه دلتاي ’العقل الموضوعيّ‘ الّذي يتجسّد في جملة من المستويات: اللغة والعادات، والمجتمع، والعائلة، والدولة، والقانون، وكلّ أشكال الحياة، بما في ذلك الدين، والفلسفة، والفنّ، كما يرى هانز جورج غادامير[2].

تذهب نظريّة فيلهلم دلتاي إلى تأمّل الحياة بوقائعها (...) إذ إنّ تجلّي العالم التاريخيّ يأتي من المعاينة المباشرة، بحيث يدرك الإنسان وقائعه، وبذلك فإنّ ثمّة تحدّيًا واضحًا للمبادئ فوق الطبيعيّة ’الميتافيزيقيا‘...

هكذا، يمكن أن ننطلق من تحديد مفهومنا لرؤية العالم من هذا المبدأ، حيث يرى دلتاي أنّ فهم الإنسان ينهض على الوعي، بالتضافر مع التأمّل الفلسفيّ، فالوعي يمكن أن يدرك جميع ظواهر العالم الإنسانيّ كما يؤكد غادامير[3]، الّذي يخلص إلى أنّ أحد نماذج رؤية العالم يتحقّق عبر التأويل. لعلّ هذا يقودنا بصورة أو بأخرى إلى الأدب الّذي تكمن قيمته الجوهريّة من خلال محاولة تقديم تصوّرات متعدّدة لهذا العالم، على ألّا تخضع لمنظور متعالٍ منعزل؛ فالوعي التاريخيّ ينهض على فعل إدراك كوننا كائنات تاريخيّة في الأساس.

إنّ مبدأ هذا التوجّه للاقتراب من رؤية العالم لا ينهض على تأمّلات مستمرّة لبعض الوقائع الفلسفيّة وجدليّتها بين العلم والميتافيزيقا، فنحن نستعير هذا المفهوم كي نؤكّد دور الأدب في تفسير العالم، وتقديم خلاصات أو استنتاجات يمكن أن تجعل من الأدب فعلًا للإدراك والوعي بالكينونة.

 

الأدب مرآة العالم

تنهض مقاربتنا على قراءة بعض الوحدات بغية الوصول إلى الرؤية الكلّيّة، ومن هنا فإنّ الأدب يعكس تصوّراتنا عن العالم، وعن ذواتنا، وهي غالبًا ما تقع في المجال المعرفيّ ضمن مفهومين: الأوّل يتحدّد بالإدراك القائم على المعرفة الواقعيّة العلميّة، في حين أنّ الثاني ينهض على تصوّرات فوق طبيعيّة أو ’ميتافيزيقيا‘، وبناء عليه؛ فإنّ بعض الأفكار والمفاهيم ما هي إلّا نمط من أنماط رؤية ما نحن عليه، بما في ذلك ’الآخر‘، فضلًا على الوجود بكلّ تعقيداته كما تتجلّى وقائعه في الأدب أو الرواية أو غير ذلك من الفنون والآداب.

 جاء في «لسان العرب» في باب ’رأي‘: "الرؤية بالعين تتعدّى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين؛ رأى زيدًا عالمًا ورأى رأيًا ورؤية"[4]. إنّ كلا المعنيين اللغويّين يقودان إلى ما نرتجيه من هذه المقاربة الّتي تقرن بين مفهومين: الرؤية للعالم بوصفها وجودًا معاينًا، بحيث تنتج أثرًا مباشرًا، بالتضافر مع الإدراك والمعرفة، وهكذا فإنّنا نعتمد رؤية العالم انطلاقًا من تصوّرها المتحرّك، ولا سيّما على مستوى الأداء الخطابيّ، حيث ترى «موسوعة النظريّة الثقافيّة» أنّ "رؤية العالم" هي عبارة عن جملة الأفكار أو المعتقدات الّتي تشترك فيها مجموعة من المتكلّمين، وتتّصل بالعالم، غير أنّ هذا التصوّر لا يغفل دور اللغة، أو لنقل الخطاب الّذي يحتمل جميع المعتقدات والمسلّمات، وهنا تبرز اللغة بوصفها وعيًا، حيث تشير الموسوعة إلى أنّ أيّ تغيّر في الأدوات أو لعبة الخطاب سوف يُنتج تغيّرًا على مستوى الوعي الخاصّ بالعالم[5]. هذا التوصيف ربّما يبدو على مستوى وجهة النظر قابلًا لأن يقرأ بصورة مغايرة؛ فالتغيّر على مستوى رؤية العالم تبعًا للسياقات يُنتج قدرًا من التعديل على مستوى الخطاب، وهذا ما يمكن أن نطبّقه على الخطابات السرديّة، فكما تؤكّد «موسوعة علم الاجتماع» - اتّكاءً على منظور دلتاي - أنّ هذه الرؤية تتكوّن من فلسفة خاصّة لدى الجماعات داخل المجتمع، ممّا يوحّد رؤيتهم تجاه موقف ما، غير أنّ هذه الرؤية تتّصل أيضًا بعلاقات الأفراد في ما بينهم، بالإضافة إلى الصور المتكوّنة، غير أنّ العلماء يرون أنّ المشكلة تكمن في كيفيّة تعريف رؤية العالم[6]، إذ هي تحتاج إلى قدر كبير من البيانات، ومن هنا، فإنّه يجب أن ننظر إلى المتون السرديّة على أنّها مدوّنة لتوفير هذا التصوّر ضمن قطاعات مكانيّة وزمانيّة تتّصل بالمحايثة.  

في تنظيرات لوسيان غولدمان، ثمّة موجّهات لفهم المقصود برؤية العالم، ولا سيّما تأويل العالم بشموليّة، إذ بدأت هذه الأفكار تتسرّب إلى الفرنسيّين في مجال الأدب، فرؤية العالم كانت - على الدوام - مفهومًا شديد التجذّر في فكر لوسيان غولدمان[7]، ولا سيّما بأثر من دلتاي وغيره. إنّ عمليّات التعبير، على الرغم من جزئيّتها ومحدوديّتها، غير أنّها تعبّر في شكل من أشكال تجلّيها عن نتوء من تصوّر كلّيّ أو شموليّ للعالم، وهي تقع بين الزمان والمكان، ولكنّها تبدو لنا في وضع خفيّ، أو أنّها تعمل في الخلف.

عمليّات التعبير، على الرغم من جزئيّتها ومحدوديّتها، غير أنّها تعبّر في شكل من أشكال تجلّيها عن نتوء من تصوّر كلّيّ أو شموليّ للعالم، وهي تقع بين الزمان والمكان، ولكنّها تبدو لنا في وضع خفيّ، أو أنّها تعمل في الخلف...

يمكن القول إنّ رؤية العالم هي الإمكانات الرمزيّة الّتي تنشط ضمن وضع متعاضد لتكوين صورة الأنا - الأنوات، ووعيها في مجال تاريخيّ، أو هي تلك الروح الّتي تسكن الأشياء والعالم، الّتي تبدو أقرب إلى نموذج يتحدّد بالروح الكلّيّة لمجموعة ما، أو شعب. كما يمكن القول بأنّها عمليّة البحث في ذلك الوعي الكامن للروح التاريخيّة الّتي تكمن في الثقافة، بما في ذلك الثقافة العربيّة على اختلاف تمظهرها في الزمن والمكان، وبهذا، فإنّنا نكاد نقترب من بنية خفيّة أو نسق مضمر يكمن في التمثّلات السرديّة، فلا جرم أن نقع على مجال نسقيّ عابر للثقافات، بغية تحقيق فهم عميق لوعينا المتجلّي في الأدب، الّذي حاول أن يجترح تصوّرًا كلّيًّا يحجب خلفه نسقًا للوعي العربيّ، الّذي بدا شديد القلق والارتباك.

 

الوعي المتعالي

إنّ الانغلاق في المفهوم القبليّ للأفكار من قِبَلِ إيمانويل كانط، كان له الأثر الأكبر في تكوين مفهوم الرؤية الّتي تطوّرت في ما بعد على يد كلٍّ من دلتاي وغولدمان وكارل ياسبرز، بالإضافة إلى بعض المثقّفين الأمريكيّين في فترة لاحقة؛ فالمنظور المتعالي للعالم يتقصّد الكشف عن إدراك الواقع لا من وجهة نظر علميّة - كما وضّحنا سابقًا - إنّما هي تنهض على ذلك المجرّد، وبعبارة أخرى، تلك القواعد الّتي تهدف إلى الكشف عن تفسير النتاجات البشريّة، ومعناها الكامن من أجل إثبات وحدة عقليّة جمعيّة، أو ربّما تميّز مجموعة ما، كما يذكر هنلديس[8]. هذا التباين قد ينتج عن تحديد مفهوم النظرة إلى العالم، تبعًا لدمجها في الأيديولوجيا على سبيل المثال الفكر الماركسيّ، أو ربّما المنهجيّ كما في المنظور النفسيّ، وغير ذلك، وخاصّة من حيث التركيز على الأنا، أو من جهة الفعل الإجرائيّ المتّصل بالجانب المعرفيّ المجرّد.

لا يمكن أن ننكر بأيّ حال من الأحوال أنّ مفهوم الوعي قد تجلّى بوضوح في فيض من الشروحات الّتي تتّصل بجملة من العلوم والحقول المعرفيّة، غير أنّه في السياق الفلسفيّ قد اندرج في خانة النموذج المتعالي، ولكنّه سرعان ما خلا إلى تموضعه بين صيغتَي الزمن والمكان، وذلك تبعًا للتصوّرات أتى عليها عدد الفلاسفة بمعزل عن مفهوم الوعي في الدراسات النفسيّة.

لقد تعرّضت الطبيعة المتعالية – الترانستدالية - للوعي إلى انتقادات، أهمّها من لدن الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسرل (1859-1938)، الّذي أكّد الطبيعة المحايثة للوعي، غير أنّه قد أحدث صيغة بدت غامضة - بعض الشيء - عبر تأكيده مفهومَي ’الظاهرة‘ و’القصديّة‘، اللتين تأسّستا على أنّ الأشياء لا تحتمل بُعدين؛ بمعنى الوجود الظاهر، وما يكمن خلفه. ومع أنّ هذا التصوّر قد بدا قاصرًا، إذ تعرّض لجملة من الإضافات والنقد على يد عدد من الفلاسفة، ولكنّه في الآن عينه قد أطلق فيضًا من نماذج التحليل الّتي أفادت بعمق من مفهوم الظاهراتيّة ’الفينومنولوجيا‘ Phenomenology الّتي أخذت في بعض الأحيان بالانحراف في توجّهاتها، ومقاصدها، ولا سيّما عمّا أتى به إدموند هوسرل، إذ بدا الوعي نموذجًا لفهم العالم، وإدراكه، ممّا يجعلنا نقترب من مبدأ التأويل الّذي تشكّل على يد مجموعة من الفلاسفة منهم هيدغر، وسارتر، وجاك دريدا، وميرلو بونتي، وغيرهم ... ففي شروحهم لا نعدم توضيحًا لهذه التحوّلات والرؤى، كما يوضّحها كتاب «مدخل إلى الفلسفة المعاصرة»[9].

 

الوعي في النصّ الأدبيّ

إنّ مفهوم الوعي في المتخيّل الأدبيّ يتعلّق بقدرتنا على أن ننظر إلى النصّ، بوصفه يحتمل مستويين من الوعي، وهنا لا نريد أن ننساق إلى التوصيف الأفلاطونيّ حول ظاهرة الأشياء وحقيقتها، ولكنّنا معنيّون بالنصّ بوصفه تشكيلًا خطابيًّا يمتدّ لنموذج مرجعيّ يُعنى بتكوين العالم. ففي النصّ يتّخذ هذا العالم وعي النصّ المتخيّل، كما يحتشد بالدلالات، ومن هنا، فإنّنا أمام وعيَين؛ وعي التأويل للعالم وإدراكه، في حين يأتي الوعي الثاني لفهم الصيغة الناشئة من لدن القارئ الّذي يمارس التأويل في مرحلة ثانية، كما يسعى في الآن ذاته إلى التوصّل إلى حقيقة هذا العالم المعاين من قِبَل الروائيّ أو الكاتب، أو المبدع عامّة، وكلاهما من منطلق التجربة.

إنّ مفهوم الوعي في الصيغ الأدبيّة أو الإبداعيّة يبدو مجالًا حيويًّا، وهنا ننطلق من مفهوم الإدراك في مجال النصّ الأدبيّ الّذي يتّخذ مبدأ التجلّي، وعكس الذات في رؤيتها لذاتها، وبناء عليه؛ فإنّ النصّ الأدبيّ يُعَدّ وسيطًا يهدف إلى تمثيل فهمنا ضمن نزعة تحليليّة؛ للوصول إلى ماهيّة العالم، ولكن بمعزل عن أن يكون هذا المعنى نهائيًّا أو يحدّد ماهيّة الشيء أو حقيقته المطلقة، وعليه؛ فإنّ النصّ يبقى بمعزل عن أيّة إحالات نهائيّة أو ثابتة.

ربّما تأتي مقاربة النصّ الأدبيّ بهدف إدراك الوعي المتشكّل منه؛ كي يكون وسيلة تقودنا إلى تمثّل نظرتنا إلى ما حولنا، بما في ذلك التاريخ واللحظة الزمنيّة الّتي تتجلّى فيها خبرتنا وقيمنا، كما قدرتنا على التحليل. وهذا يأتي انطلاقًا من هذه الظاهرة الّتي يمكن أن ننعتها بنصّيّة تتعرّض لاختبار الأنا. وبما أنّ الوعي يتّصل بالظاهرة فإنّه يقيم وزنًا للتجربة الّتي يمكن أن نراها في تمثّلات المبدع للعالم، وقدرته على اختزال مفهومه الخاصّ. ولعلّ الرواية تُعَدّ صيغة فاعلة بوصفها نموذجًا من التجربة الّتي تعكس حقيقة إدراكنا للأشياء، فالحدث السياسيّ والتحوّلات الّتي نختبرها كالهزيمة، والخيبة، وتبدُّل المجتمع من صيغة إلى صيغة كما إدراك الأنا، والهويّة، والآخر... إلخ، هي ظواهر تتّصل بتجربتنا، وبناء عليه؛ فإنّ فعل السرد يُعَدّ القدرة على بناء المعنى، وبخاصّة للوقائع الّتي نعايشها، مع تأكيد أنّها لا تعني بأيّ حال من الأحوال قيمة موضوعيّة مطلقة أو متعالية.

إنّ مفهوم الوعي في الصيغ الأدبيّة أو الإبداعيّة يبدو مجالًا حيويًّا، وهنا ننطلق من مفهوم الإدراك في مجال النصّ الأدبيّ الّذي يتّخذ مبدأ التجلّي، وعكس الذات في رؤيتها لذاتها...

لا يمكن أيًّا منّا أن ينكر أنّ قيمتَي الزمان والمكان تُعَدّان منطلقًا لتحديد هذه الماهيّة في النسيج السرديّ، كونها تشغل حيّزًا في توليد الوعي للعالم في سياق التجربة، وبذلك يتّصل المكوّنان إذ يصبح الإنسان - في الآن ذاته - الذات كما الموضوع في المتخيّل السرديّ، ولكنّنا نعلم أنّ ثمّة تكوينًا وتراكمات من المعاني الّتي ترى هذا في صيغة أخرى، أو عبر نموذج مؤسلب انطلاقًا من الذات الّتي تشهد انهيار أحلامها، أو توقّعاتها، وتهشّم صورة العالم كما تختزلها المتون السرديّة، الّتي تُعنى بخلق تقاطعها مع العالم على غير مستوًى.

 

الرؤية عبر التجربة

لقد قدّم الفيلسوف هيدغر نسخة متقدّمة من تذليل الفهم الفينومنولوجي، حين شدّد على قيمة المعنى، من منطلق أنّ الظواهر ليست معطاة أو منجزة، وبناء عليه؛ فإنّ قصديّة الوعي تتجلّى في المعنى كما يوضّح مارك لوني في معرض مساءلته لمقاربة هيدغر. بناء عليه، يمكن النظر إلى الرواية على أنّها مرجل تتفاعل فيه خبرات الذات المبدعة، الّتي تنشأ عن محاولة بناء تجربتها في تكوين صورة العالم، ومنظورها له. إنّنا نرى هذا على سبيل المثال في شخصيّة "إلياس نخلة" في رواية عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973)، الّتي تقرأ العالم أو ظاهرة هذا الوجود عبر تجربتها وخبرتها، وما تخلعه عليه من معانٍ تتضامن مع تلك الإضافات الّتي تأتي من لدن الشخصيّة الثانية في النصّ. ونعني "منصور عبد السلام" حيث يُنسج العالم بما يتضمّنه من خبرات تتّصل بالحبّ، والوطن، والمرأة، والحياة، مع محاولة الإقامة في تكوين سرديّ يحتفي بإطلاق نسخة من التأويل لهذا العالم الّذي يتمركز على الوعي الذاتيّ، وبمعنًى آخر، الإنسان الّذي يُعَدّ مصدر التمثيلات الّتي تختزل الوجود، استجابة لتنظير ميشيل فوكو الّذي يرى أنّ الإنسان - الكائن التجريبيّ والمحدود تاريخيًّا - ربّما يُعَدّ مصدر التمثيلات الّتي نعرف بها العالم، بما في ذلك أنفسنا، وبوصفنا أيضًا كائنات تجريبيّة.

إنّ ما يعنينا في هذا المجال القدرة على استبصار مواطن الخلل الّتي عصفت بوجودنا الكلّيّ، ولا سيّما أنّنا نمارس وهم الوجود، في حين أنّنا نعتقد أنّ وعينا طفق يقترب من التقدّم، في حين أنّنا نهوي بكلّ قوّة إلى القاع، وعلى الأدب - في هذه المرحلة - أن يعي دوره ضمن لعبة السرد، بأن يقدّم التصوّرات الذهنيّة والإمتاعيّة للوجود المضطرب. فاختلاف المعياريّة والأدوات للرؤية يتأسّس تبعًا للتصوّرين الدينيّ أو العلميّ اللذين يدفعان لتبنّي منظورات محدّدة تطال كلّ مستويات الوجود، وما المنهجيّات الّتي نقارب فيها الموجود سوى محاولات ادّعاء بأنّها من تقدّم الصورة المثلى لفهم العالم[10]، وهذا يشمل كلّ المستويات بما في ذلك الأدب، ولا سيّما الرواية الّتي تتّخذ تصوّرها انطلاقًا ممّا تؤمن به مع محاولات لتفسير الوجود. هكذا تتقدّم التصوّرات القيميّة لتقديم إجابات عن كثير من الأسئلة الّتي تؤرّق وجود الإنسان في أزمته، وأيّ خطاب، أو كتابة، أو كتاب، أو كاتب لا ينطلق من أزمة فإنّه لن يتمكّن من تقديم جزء من تصوّره الخاصّ للعالم.

 


إحالات

[1] "Wilhelm Dilthey (Stanford Encyclopedia of Philosophy)", تاريخ الوصول 28 ديسمبر، 2019, https://plato.stanford.edu/entries/dilthey/#DiltReflEthiWorlHisDoubAbouMeta.

[2] هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ترجمة حسن ناظم وعلي صالح حاكم (طرابلس: دار أويا للطباعة، 2007)، ص. 323.

[3] مرجع سابق، ص. 324.

[4] ابن منظور،  لسان العرب، ج 14 (بيروت: دار صادر) ص. 291.

[5] أندرو إدجار وبيتر سيدجويك، موسوعة النظريّة الثقافيّة، ترجمة هناء الجوهري (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2014) ص. 338.

[6] جوردان مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمّد الجوهري (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000) ص. 788-789.

[7] لوسيان غولدمان وآخرون، البنيويّة التكوينيّة والنقد الأدبيّ، ترجمة محمّد برادة (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1986) ص. 95.

[8] مرجع سابق، ص 113.

[9] مارك لوني، مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، ترجمة الزواوي بغورة (الجزائر: ابن النديم للنشر، 2020) ص. 87.

[10] Lois Tyson, Critical Theory Today: A User-Friendly Guide, Routledge (New York, 2006), p.3.

 


 

رامي أبو شهاب

 

 

 

كاتب وناقد أكاديميّ متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيّة وخطاب ما بعد الكولونياليّة. صدر له «خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربيّة» (2021)، و«الرسيس والمخاتلة: خطاب ما بعد الكولونياليّة في النقد العربيّ المعاصر» (2014).